بضعة أسئلة لا بدّ منها: لماذا يقع الوزير جبران باسيل دائماً في «الزَلّة»؟ وبين كل السياسيين، لماذا لا تقع «الزَلّة» إلّا معه؟ ولماذا تستهدف «الزَلّة» حلفاءه في «حزب الله» أكثر من خصومِه؟
يَصعب الاقتناع بأنّ وزير الخارجية، المهندس الذي يتمتع بتركيزٍ يعترف به الخصوم قبل الأصدقاء، لم يتنبَّه إلى أنّه كان مستهدَفاً بأجهزة التصوير والتسجيل و«الميكرو» الموجودة أمامه على الطاولة «العامرة»، بعد اجتماع «التكتل».
بالتأكيد، هو يعرف أنّ بعض «الأجهزة»- على الأقل- يمكن أن يكون قيد التشغيل، عدا الناس الذين ربما يكونون أيضاً «قيد التشغيل» هناك، وفي هذه اللحظة. ولكنه، على رغم ذلك، وجَّه انتقاده الى»حزب الله» على خلفية سلوكه في الانتخابات النيابية الأخيرة.
أكثر من ذلك، يكون ساذجاً مَن يعتقد أن باسيل «يُوَشْوِش» كلاماً يتناول «حزب الله»، أمام الأمير طلال إرسلان، ويريده أن يبقى قيد الكتمان. فهل مَن يصدِّق أن «المير» سيضع «سرَّ» باسيل «في عِبِّه» وينام تلك الليلة؟
الأرجح أنّ الذين يظنّون ذلك لا يعرفون شيئاً، لا عن «حزب الله» ولا عن المير طلال ولا عن باسيل ولا عن طبيعة التركيبة التي تدير البلد اليوم. وربما يكون هذا السبب الأساسي للفشل الدائم الذي يصيب بعض القوى السياسية في لبنان، على الأقل منذ عام 2005.
إذاً، إذا كان لا بدّ من الاعتراف بذكاء باسيل - وهذا أمر لم ينكره أحد - فلا بدَّ من طرح علامات استفهام قوية حول «صدفة» الفيديو، وهو الأخير في مسلسل الفيديوهات الباسيلية المتلاحقة منذ بداية العهد.
الواضح أنّ باسيل يعتمد أسلوب «الزلّة» جزءاً من تكتيكه السياسي. فقبل أسابيع من انتخابات أيار 2018، قال لمجلة «ماغازين»: «حزب الله» يتّخذ خيارات لا تخدم مصالح الدولة في الموضوع الداخلي، وكل لبنان يدفع الثمن (…) وفي وثيقة التفاهم بند أساسي يتعلق ببناء الدولة، لكن، ولسوء الحظ، هذه النقطة لم تُطبّق بحجة الاعتبارات الاستراتيجية».
قبل ذلك بأيام، فجَّر باسيل قنبلته في وجه الرئيس نبيه بري في «فيديو محمرش». واستبق ذلك بقنبلة سياسية عبر «الميادين»: «لا عداء عقائدياً بيننا وبين إسرائيل».
لا شيء يمنع أن يكون باسيل راغباً في توجيه رسائل انتقاد إلى «حزب الله» في بعض المراحل. ولكن، أيضاً، لا شيء يمنع أن تكون بعض رسائله منسَّقة مع «الحزب» في مراحل أخرى. فبعض الرسائل يصبُّ عملياً في مصلحة باسيل ومصلحة «الحزب» في آن معاً. ومنها الرسالة الأخيرة قبل أيام في «الفيديو» المتداول بعد اجتماع «التكتل».
واللافت أنّ «حزب الله» التزم الصمت تجاه ما قاله باسيل. فقط، ظهرت تغريدة من جواد نصرالله، نجل الأمين العام لـ»الحزب»، تناولت الموضوع. وقد جاءت لتبدّد التوتر وتبرّر التنوّع في وجهات النظر بين الحلفاء.
في نظر بعض المتابعين، أنّ الوزير باسيل تقصَّد رمْيَ «زلَّته» عن «حزب الله» في هذا الظرف السياسي تحديداً، أي في اللحظة التي يتعرَّض فيها هو والرئيس ميشال عون لانتقادات الأميركيين، على خلفية أنّهما «يذوبان» في نهج «حزب الله». وقد ترجم المسؤولون في واشنطن هذه الانتقادات بالجفاء في التعامل مع باسيل في زيارته الأخيرة، مقابل الحميمية مع الحريري.
ومغزى رسالة باسيل إلى مَن يعنيه الأمر، وواشنطن في الطليعة: «نحن لا نذوب في نهج «الحزب». على العكس، نختلف معه في كثير من الأمور. ولنا مآخذ على بعض سلوكه. وهو تعامل معنا بسلبية في الانتخابات الأخيرة». أي، يريد باسيل إنكار أي «تواطؤ» بين «الحزب» و«التيار»، ويحاول تظهير هذا الإنكار وكأنّه جاء بمحض الصدفة، ومن طريق الخطأ.
وثمة مَن يقول: إذا كان باسيل مستفيداً من تسريب هذا الموقف لأنّه يبدِّد صورة ارتباطه بـ»حزب الله»، فإنّ «الحزب» نفسه مستفيد أيضاً. فهو أيضاً يحرص على أن يتمتع حليفه المسيحي برصيد أميركي ليبقى جزءاً من تغطيته في الداخل. ويهمُّه أَلاّ تبدو الدولة كلها رهينةً له. ولذلك، يمكن طرح السؤال الآتي: هل تكون زلّة «الفيديو» الأخيرة منسَّقة بين باسيل و»الحزب»، لمواجهة الهجمة الأميركية عليهما مقابل احتضان الحريري؟
هناك تغيير في المعادلة السياسية تعبّر عنه زيارة الحريري لواشنطن. فالرجل حظي هناك بموقع مميَّز، يُذَكِّر بموقع والده في عواصم القرار الدولية. والتداعيات التي يريد باسيل و»الحزب» وحلفاؤهما أن يتصدّوا لها، بعد الزيارة، هي الآتية:
- عودة الأميركيين إلى دعم رئيس الحكومة على حساب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس.
- توثيق الترابط بين حلفاء واشنطن (الحريري- جعجع- جنبلاط).
- ممارسة الأميركيين ضغوطاً للحدّ من انزلاق البلد إلى خيارات «حزب الله».
- موافقة الحريري وحلفائه، بنسبة مقبولة، على المفهوم الأميركي للمفاوضات الحدودية مع إسرائيل.
ومشكلة قوى 8 آذار هي أنّها كانت مضطرة إلى مباركة جهود الحريري في واشنطن، كسبيل وحيد لإقناع الأميركيين بتجميد العقوبات مرحلياً… ومعها خفض التصنيف السيادي الذي بدا في الأيام الأخيرة مسألة حياة أو موت للبنان.
ولذلك، تُرِك الحريري «على راحته» في واشنطن، علماً أنه لم يكن في موقع يُحسد عليه. فقد سمع مجدداً ما كان مساعد وزير الخزانة الأميركي لشؤون تمويل الإرهاب والجرائم المالية مارشال بيلنغسلي قد أبلغه إلى مسؤولين لبنانيين في السابق: لدينا شكوك في بعض عقود البنك الدولي عندكم، وهناك تقنية لتيئيسه. وإذا لم تطبِّقوا التدقيق الكامل (Full audit)، فلن تحصلوا على أي دعم.
في المبدأ «زلّات» باسيل السابقة فعلت فعلها. وساهمت في توفير أفضل تغطية مسيحية له في الانتخابات. ولكن، هل تفعل فعلها اليوم لتغيير النظرة الأميركية تجاهه، حيث الكلام يتزايد عن شمول العقوبات الأميركية حلفاء «الحزب» المسيحيين؟
الأرجح أنّ الأميركيين يعتمدون على المعلومات والوقائع والأرقام لتقويم كل طرف في لبنان، لا على «الزلّات» والمناورات السياسية. ولكن، على رغم ذلك، ما زال هناك مَن هو مقتنع بأنّ هناك فائدة في كل مناورة، في وقتها، ولو كانت محدودة!